تبدأ معه الحكايات بالمقطع الرائع " بص يا غالي " ، يأخذك لعالم لا تقوي خيالاتك ان تحلق به ، فقط تنتظر حتي يفرغ تماما من السرد لكي تبدأ رحلتك في التخيل .
أبو احمد ، يعيش علي مساحة مؤجرة تسمح فقط لثلاثة أفراد وطفلين للتحرك الحذر لكي لا يرتطموا ببعض ، ملامحه تألفها منذ البصه الأولي ، صوته تسمعه كل يوم ملايين المرات دون اضطراب ، سمرة وجهه حميمية للغاية ، مهندم الثياب ، وحليق الذقن ومعطر بعطور غريبة بعض الشيء .
قابلته قدرا ، في مطلع كوبري ، حيث تعطلت سيارتي ، وكنت أحاول جاهدا أن انذوي قليلا بجانب الطريق .
" اي خدمة يا بيه " قالها وهو يترجل من التاكسي ، تحرك كمحترف ناحية سيارتي واصابني بالاحباط " دي اتوماتيك " ، كنت قد قررت بعد هذه الصدمه أن اتصل بمديرتي في العمل أخبرها أن تسجل غيابي عن الاجتماع الاسبوعي .
اصطحبني معه في طريقنا للسيد " اسامه الكوري " عمدة ميكانيكية السيارات الاتوماتيك ، اجتهاد في توقع سبب العطل ، تطمينات بأن الموضوع سهل ، كلها ربعايه وهتدور ، نصيحة بالاحتفاظ بأرقام هواتف مهمة في مثل هذه الظروف لكهربائي وميكانيكي وعفشجي .
لكني في نهاية الأمر احتفظت فقط برقم جواله ، تحمس هو ايضا للاحتفاظ برقمي بعدما تجاذبنا أطراف الحديث عن طبيعة عملي بشركة من شركات الأدوية .
إنه الترامادول ، مهيج قلوب الحياري ، أدركت سر الحماسه في تسجيل هاتفي ، وانتظرت المكالمة
صدق توقعي وخاب توقيتي ، فكم من الاشخاص من يفعلون ذلك معي ولكن تدللهم يابي إلا أن يهاتفني قبل أسبوع أو اثنين ليسأل عن صحتي وأخباري وشيئا فشيئا " قاصدك في خدمة يا باشا "
" ابو أحمد " هاتفني بعد توديعه بساعات " بص يا غالي مافيش ترامادوليه أو حتي تراماجاك وهنحاسبوك عليها ماتقلقش "
لا أخفي سرا أنه داهمني بجرأه غير معهوده ، فقلت له "طيب لما أشوفك "، فوثب في الهاتف يخبرني أنه سينتظرني علي قهوة " سيد عجمي " بعد صلاة العشاء .
صلاة العشاء ؟ لما لم أدرك سلفا أنه ككل الناس يستخدم أوقات الصلاة كساعة مطلقه دون تحديد ؟ لما قفز بذهني أنه ربما يصلي أو توقع أنني اصلي فقرر مجاملتي بهذا الميعاد ؟
لم يتوقف تفكيري لسبب غامض في هذا " الأبو احمد " حتي قال في طلقة واحدة لصبي القهوه " اتنين مانو وحجر معفن يا ابني "
هذا الرجل لا يترك لك مساحة من المشاهدة ، لا يعطيك متعة التوقع اطلاقا ، " جبت الطلب يا غالي " ، تعمدت أن أبدو وكأن الأمر جد يسير وأنني جئت في المقام الأول لاشكره وليس لأجلب له شريط ترامادول ، وهو دون تعمد مني أدرك ذلك فعاجلني " انا ليا نظرة في الناس ، علشان كده طلبت منك من غير ما أفكر أصلك باين عليك جدع ، ومالكش في اللف والدوران "
تبدأ الصداقات غالبا صدفه ، وتشعر مع الوهلة الأولي أن هذا الشخص يصلح أن يكون صديقك ، اهتمامات مشتركه ، تفكير واحد ، خريجوا مدارس او جامعات متشابهه ، بلديات وهكذا شيئا فشيئا تتلمس أنت ومن قررت صداقته ودون حسابات طريقكما لتوطيد الصله .
لكن " أبو احمد " لا تجمعني به أي صلة ، لكننا مارسنا نفس الفعل ، تكررت الاتصالات ، وتكررت الأسئلة ، وتعددت اللقاءات ، لكن لم يسألني مرة أخري عن أي أنواع للبرشام .
هذه المرة التي أردت أن استكشف فيها الحقيقه ، وبكل وضوح قلت له " انت لسه شريط الترامادول ما خلصش ؟ "
ضحك وقال " انا مش بتاع ترامادول يا غالي ، دي كانت حته كده هنخلصوا بيها مصلحه " .
للمرة اللامنتهيه يفاجأني ، وأنا من بنيت خيالات كان معظمها سيئ الظن بالرجل ، برغم أنه لم تظهر عليه اي علامات لذلك ، ربما تعودي علي مجاملات الناس اصحاب المصلحة ، ربما الشر الدفين بداخلي أو ربما لا أعرف
دارت برأسي الأسئله ، وبلا اي جواب ، كان أغصها في عقلي ، هل سيتكرر اللقاء مرة أخري بعد أن اكتشف سوء نيتي به ؟
مرت الدقائق ثقيلة ولكنه عاد ليطمئنني ، " بص يا غالي ، عندي مشوار سبوبه واقابلك بكره لو فاضي "
ولم استطع ان اقابله في هذه البكره ، فلم اقوي علي هذا الشتات الفكري ، ليتني ما سألته ، وليتني احتفظت بصورته التي صنعتها عنه دون اي افصاح . كيف يكون هذا الرجل بصورة مختلفة عن التي رسمتها عنه ؟ هل أفشل مؤخرا في قراءة البني أدمين ؟ هل القناع هذه المرة صنع بحرفية بالغه ؟
تقابلنا ، سؤال هذه المره يضغط علي كل حواسي ، من أنت ؟ ولماذا لم ترحني وتكون كباقي البشر ؟
قرأ اللعين أفكاري وقرر في لحظة أن ينهي اللعبه ، قالها بيسر وسكينه " أنا سوابق يا غالي " ولم يمهلني " من أول مره وانا عارف انك مش مطمن لي وحاطط في راسك اني من اياهم وهجر منك برشام " ، واستطرد يحكي لي ماحدث ، فهو سوابق في قضية مخدرات ، بل وقضية اتجار وحكي لي ظروف القبض عليه ، وأنه كان ضحية اثنين من الأنذال ، حينما اجتمع ضابط فاسد وشخص قريب لأبو احمد وقررا صناعة قضية ، دبر لها الضابط ونفذها ابن خالة " أبو احمد " حينما طلب نجدته في نقل " شوية خردوات " فاذا بالخردوات مخدرات ، وهو من مجرد فاعل خير لرقم في سجن طره خمس سنوات .
بعيدا عن أجواء " جعلوني مجرما " تحدث لي عن معاناة الزنزانه وكيف غيرت حياته ،وكيف تقابل مع أناس لهم فلسفتهم الخاصة ، علمت منه أن كل الصور التي نرسمها للسجن هي في الحقيقة صورة سينمائية فالسجن فقط حيطان وأرض وبني ادمين يجاهدون كي يحتلوا مساحة محددة من الاشبار في أرضيته .
توطدت علاقتي به ، صرنا كصديقين حميمين ، اراقبه عن قرب ، اشعر بالاسي لما ظننته به في باديء الامر ، وهو لن يتغير ، تظل فقط معه مستمعا إلا أن يفرغ من سرده ثم تبدأ رحلتك في التخيل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق